بداية رحلة الشركة كانت عام 1939 ،عند قيام مؤسسي الشركة “ويليام هوليت” و “دايفيد باكارد”، ضخ استثمارات قيمتها 538 دولار لتأسيس الشركة، وذلك في “جراج” قريب من بالو التو في ولاية كاليفورنيا، وذلك بعد خمس سنوات من تخرجهما من قسم الهندسة الكهربائية بجامعة ستانفورد العريقة. وكان أستاذهما “فردريك ترمان” هو أول معلم وناصح لهما في عملهما الجديد. وقام كل من ويليام ودايفيد بعمل قرعة لاختيار اسم الشركة، وكسب دايفيد باكارد الرهان، وسميت الشركة “هوليت باكارد”. وتم إعلان الشركة كمؤسسة في 8 أغسطس 1947، وأصبحت شركة عامة متداولة في البورصة في 7 نوفمبر 1957، أي بعد حوالي عقد كامل من الزمان بعد تأسيسها.
وكانت بداية النجاح الحقيقى مع جهاز HPA200، جهاز المذبذب الصوتي Audio Oscillator الشديد الدقة. وتمكنت الشركة من بيع هذا الجهاز الجديد بسعر 54,40 دولار في حين كان المنافسين يبيعوا الأجهزة المثيلة والأقل دقة بسعر أكثر من 200 دولار. واستمرت الأجيال المختلفة من هذا الجهاز في الأسواق لمدة 33 عاماً متتالية، محققة أطول فترة لتواجه جهاز الكتروني في السوق على مر الزمان.
حقبة أجهزة الاختيار والقياس:
في اربعينات القرن العشرين، كانت منتجات الشركة الالكترونية محل التقدير والاحترام من قبل المهندسين والعلماء، نظراً لجودتها ودقتها. ثم بدأت الحرب العالمية الثانية، التي كانت نقطة تحول هامة للشركة وكذلك العديد من الشركات الأمريكية في هذا الوقت. فلقد تحولت مشتريات الحكومة الامريكية من الأجهزة الالكترونية من قطرة صغيرة إلى سيل عارم. وقامت الشركة ببناء أول مقر لها وأضافت العديد من المنتجات الجديدة. وقام دايفيد باكرد بتصميم الفولتميتر الأشهر في تاريخ الشركات، من طراز HP400A، والذي تميز بجودته ودقته العاليتين، وكذلك رخص سعره مقارنة بالمنافسين. وخلال هذه الحقبة كان لدى الشركة أكثر من 39 منتج بالأسواق. وبدا مستقبل الشركة واعداً للجميع. في تلك الحقبة أسس ويليام ودايفيد نظام إدارة متفتح، والمبني على نظام المؤسسة المفتوحة. وأدار كل من ويليام ودايفيد الشركة بمنطق ومنهجية الإدارة بالأهداف، ونظام الباب المفتوح. فلقد كانت مكاتب المديرين بلا أبواب، والعاملون موجودون في مساحات مفتوحة. وهذا لبناء الثقة والتفاهم بين كل منسوبي الشركة بعضهم البعض، وبلا حواجز. فلقد ساعد هذا النظام منسوبي الشركة على مناقشة مشاكلهم مع رؤسائهم، بدون خوف من العقاب أو العواقب. كما قام كل من ويليام ودايفيد بترسيخ عدد من مفاهيم الإبداع لدى منسوبيهم، ومنها تقديم خدمات الرعاية الطبية، ومناداة كل موظفي الشركة بعضهم البعض بأسمائهم الأولى دون تكليف (وشمل ذلك ويليام وديفيد نفسهما)، ومشاركة الموظفين حفلاتهم الخاصة، وغيرها من الأشياء البسيطة في المظهر ولكن الكبيرة في النفوس. وخلال خمسينات القرن العشرين قام كل من ويليام ودايفيد بخطوة غير معتادة بالمرة خلال تلك الفترة، وهي إعطاء منح مالية للموظفين لشراء أسهم بالشركة. وقامت الشركة في خلال تلك الحقبة بعمل أول الخطوات تجاه العولمة، وذلك قبل اختراع هذا المصلح بعقود كثيرة. فلقد قامت الشركة بتأسيس وحدات لها خاصة بالتصنيع والتسويق بالقارة الأوروبية. وكذلك خلال خمسينات القرن الماضي، قامت الشركة باختراع عداد لقراءة الترددات العالية HP524A، والذي خفض الوقت اللازم لقياس الترددات العالية من حوالي 10 دقائق إلى ثانية أو ثانيتين على الأكثر. ونفس الوقت قامت الشركة بأول استحواذ في تاريخها، عندما قامت الشركة بالاستحواذ على شركة F.L. Moseley المتخصصة في مجال أجهزة الجرافيك العالية الجودة. وهذا ما سمح للشركة بالدخول إلى مجال أجهزة الرسم والتخطيط Plotters والذي مهد الطريق لدخول الشركة إلى مجال الطابعات والتي أصبحت أكبر منتج لها في العالم فيما بعد. ولاستمرار النمو دون فقدان القدرة على الحركة والمرونة، قامت الشركة بتأسيس وحدات متصلة ومترابطة لكل مجموعة من المنتجات الخاصة بالشركة. فلقد كانت الوحدة بمثابة شركة مستقلة، ولها صلاحية القرار فيما يخص نظم التطوير والتصنيع والتسويق الخاصة بمنتجاتها. وهذا ما سمح للشركة بالمرونة الكافية والقدرة العالية على التصدي للتغيرات التي تواجه الأسواق بطريقة بعيدة عن البيروقراطية.
القدرة على التغيير … الدخول إلى عصر الحوسبة الرقمية:
وفي ستينات القرن العشرين، استكملت الشركة رحلة النمو الثابت في مجال أجهزة القياس والاختبار، وكذلك في المجالات المرتبطة بهذا المجال، ومنها نظم الالكترونيات في المجالات الطبية، وكذلك الأجهزة التحليلية. وفي عام 1966 قامت الشركة بتطوير أول حاسب آلي في تاريخها، من طراز HP2116A . وفي نفس العام قدمت الشركة واحدة من أكثر الإبداعات والابتكارات التي غيرت وجه العالم وهي تكنولوجيا LED . وتنوعت استخدامات تكنولوجيا LED في الكثير والكثير من المجالات، ومنها شاشات الأجهزة الرقمية المحمولة، وشاشات الإعلانات، ومصابيح السيارات، وغيرها. كما قدمت الشركة للعالم أول آله حاسبة علمية مكتبية من طراز HP9100A. وكانت لهذه الآلة الحاسبة القدرة على البرمجة باستخدام الكروت الممغنطة، بما سمح للعلماء والباحثين باستخدام تلك الآلة الحاسبة، وإجراء العلميات الحاسبية المعقدة دون الحاجة إلى استخدام حاسبات آلية كبيرة ومعقدة، وبل في أغلب الأحوال غير متوفرة دائماً. وكانت الدعاية المصاحبة لهذه الآلة الحاسبة الجديدة هي أنها “حاسبك الآلي الشخصي”. وهذا كان من أوائل الاستخدامات لهذا اللفظ “الحاسب الآلي الشخصي”. وتوسعت الشركة في عملياتها خارج وداخل الولايات المتحدة. فلقد قامت الشركة بالدخول إلى السوق الأسيوي من خلال شراكة مع شركة Yokogawa اليابانية، كما قامت ببناء أول مصنع لها خارج ولاية كاليفورنيا. وفي عام 1962 دخلت الشركة قائمة العظماء الخمسمائة، فلقد أصبح ترتيب الشركة رقم 460 ضمن أكبر 500 شركة طبقاً للتصنيف الخاص بفوربس. واستمرت الشركة في الصعود خلال العقود التالية، ففي سبعينات القرن العشرين استمرت الشركة في تطوير منتجاتها المخصصة للحوسبة الرقمية. وقامت الشركة بطرح حاسبها الآلي المتعدد الأغراض من طراز HP3000 ، كما طرحت الشركة واحد من أوائل الأجهزة الالكترونية الشخصية في العالم وهي الجهاز HP01، والذي كان عبارة عن ساعة معصم رقمية ومعها آلة حاسبة ونتيجة شخصية. وشهد هذا العقد وصول مبيعات الشركات إلى مليار دولار عام 1976، وتعدت المبيعات حاجز المليار دولار في خلال 3 سنوات، وذلك في عام 1979. وعلى صعيد الإدارة قامت الشركة بترسيخ مبدأ الساعات المرنة في العمل، وكانت الشركة أول شركة أمريكية تقوم بتطبيق هذا المبدأ. وفي نهاية هذا العقد قام كل من ويليام ودايفيد بتفويض “جون يانج” للقيام بأعمال الإدارة اليومية للشركة. وخلال الثمانينات من القرن العشرين، أصبحت الشركة لاعب رئيسي في مجال الحاسبات الآلية على اختلاف انواعها، سواء كانت حاسبات مكتبية أو محمولة وحتى الوصول إلى الميني كمبيوترز. وقامت الشركة بربط تكنولوجيا الحاسبات الآلية مع أجهزتها الخاصة بالقياس والاختبار والتحليل، وكذلك الأجهزة الطبية، بما جعلها أجهزة متميزة وفعالة وسريعة وخارج نطاق المنافسة بكثير. كما شهدت هذه الفترة الزمنية طرح الشركة لمنتجاتها من طابعات الليزر والطابعات النافثة للحبر (Ink Jet)، والتي يمكن توصيلها مباشرة على أجهزة الحاسب الآلي الشخصية. ولقد أطاحت الطابعات النافثة للحبر تكنولوجيا الطابعات النقطية (Dot Matrix) من الأسواق، ذلك لرخص سعرها وجودتها العالية. واحتلت الشركة الصدارة في هذا المضمار، وكانت دائماً خارج المنافسة. وأصبح الجراج التي نشأت فيه الشركة واحد من المعالم الأثرية في ولاية كاليفورنيا. واحتلفت الشركة بعيدها الخمسين وبها 95 ألف موظف، في حين بلغت مبيعاتها حوالي 12 مليار دولار.
الصعود إلى قمة النجاح:
في التسعينات أصبحت الشركة من الشركات القلائل في العالم التي زاوجت بين تقنيات الحاسبات الآلية والقياس والاتصالات. فلقد قامت الشركة بعمل العديد من التحسينات على نظم الحوسبة المحمولة واخترعت العديد من نظم وحلول الطباعة والتعامل مع الصور. وشهدت الشركة نسب نمو في حدود 20% سنوياً على مدار هذا العقد. وتخلى “جون يانج” عن الإدارة إلى “ليو بلات”، والذي أصبحت الشركة تحت إدارته مثالاً رائعاً فيما يخص أعمالها وطرق التعامل مع منسوبيها، وكذلك مساهمتها في الأعمال الخاصة بتطوير المجتمع. وكما شهد هذا العقد فصل نشاط الشركة الخاص بأجهزة ومعدات القياس والاختبار إلى شركة جديدة وهي Aglient Technologies، وتحت قيادة جديدة، للدخول بقوة وبصورة مختلفة إلى الألفية الثالثة. وفي بداية الألفية الثالثة، ركزت الشركة على تبسيط استخدامات التكنولوجيا لتناسب جميع شرائح عملائها، سواء كانوا أفراد أو مؤسسات كبيرة. واصبحت الشركة من أكبر شركات تكنولوجيا المعلومات في العالم، فلقد بلغ حجم مبيعاتها في عام 2010 حوالي 126 مليار دولار، وعدد موظفيها حوالي 325 ألف موظف. واحتلت الشركة مكان الصدارة في عالم الحاسبات الآلية والطابعات، وخاصة عندما استحوذت على شركة كومباك في 2002. وامتد نشاط الشركة إلى مجال الخدمات والاستشارات، عندما استحوذت الشركة على شركة EDS العملاقة في هذا المجال، في صفقة تقارب 14 مليار دولار. واعتبرت هذا الخطوة توجه استراتيجي للشركة للدخول إلى عالم الخدمات والاستشارات، وذلك لمواجهة المنافس الأبرز لها في هذا المجال (أي بي أم).
ومازالت الرحلة مستمرة، فرحلة الابداع والابتكار ليس لها نهاية، وإن كانت البداية لابد أن تكون على أيدي عظماء مثل ويليام هوليت ودايفيد باكرد.