هيوليت … باكارد … ريادة الأعمال كما يجب أن تكون

بداية رحلة الشركة كانت عام 1939 ،عند قيام مؤسسي الشركة “ويليام هوليت” و “دايفيد باكارد”، ضخ استثمارات قيمتها 538 دولار لتأسيس الشركة، وذلك في “جراج” قريب من بالو التو في ولاية كاليفورنيا، وذلك بعد خمس سنوات من تخرجهما من قسم الهندسة الكهربائية بجامعة ستانفورد العريقة. وكان أستاذهما “فردريك ترمان” هو أول معلم وناصح لهما في عملهما الجديد. وقام كل من ويليام ودايفيد بعمل قرعة لاختيار اسم الشركة، وكسب دايفيد باكارد الرهان، وسميت الشركة “هوليت باكارد”. وتم إعلان الشركة كمؤسسة في 8 أغسطس 1947، وأصبحت شركة عامة متداولة في البورصة في 7 نوفمبر 1957، أي بعد حوالي عقد كامل من الزمان بعد تأسيسها.

وكانت بداية النجاح الحقيقى مع جهاز HPA200، جهاز المذبذب الصوتي Audio Oscillator الشديد الدقة. وتمكنت الشركة من بيع هذا الجهاز الجديد بسعر 54,40 دولار في حين كان المنافسين يبيعوا الأجهزة المثيلة والأقل دقة بسعر أكثر من 200 دولار. واستمرت الأجيال المختلفة من هذا الجهاز في الأسواق لمدة 33 عاماً متتالية، محققة أطول فترة لتواجه جهاز الكتروني في السوق على مر الزمان.

حقبة أجهزة الاختيار والقياس:

في اربعينات القرن العشرين، كانت منتجات الشركة الالكترونية محل التقدير والاحترام من قبل المهندسين والعلماء، نظراً لجودتها ودقتها. ثم بدأت الحرب العالمية الثانية، التي كانت نقطة تحول هامة للشركة وكذلك العديد من الشركات الأمريكية في هذا الوقت. فلقد تحولت مشتريات الحكومة الامريكية من الأجهزة الالكترونية من قطرة صغيرة إلى سيل عارم. وقامت الشركة ببناء أول مقر لها وأضافت العديد من المنتجات الجديدة. وقام دايفيد باكرد بتصميم الفولتميتر الأشهر في تاريخ الشركات، من طراز HP400A، والذي تميز بجودته ودقته العاليتين، وكذلك رخص سعره مقارنة بالمنافسين. وخلال هذه الحقبة كان لدى الشركة أكثر من 39 منتج بالأسواق. وبدا مستقبل الشركة واعداً للجميع. في تلك الحقبة أسس ويليام ودايفيد نظام إدارة متفتح، والمبني على نظام المؤسسة المفتوحة. وأدار كل من ويليام ودايفيد الشركة بمنطق ومنهجية الإدارة بالأهداف، ونظام الباب المفتوح. فلقد كانت مكاتب المديرين بلا أبواب، والعاملون موجودون في مساحات مفتوحة. وهذا لبناء الثقة والتفاهم بين كل منسوبي الشركة بعضهم البعض، وبلا حواجز. فلقد ساعد هذا النظام منسوبي الشركة على مناقشة مشاكلهم مع رؤسائهم، بدون خوف من العقاب أو العواقب. كما قام كل من ويليام ودايفيد بترسيخ عدد من مفاهيم الإبداع لدى منسوبيهم، ومنها تقديم خدمات الرعاية الطبية، ومناداة كل موظفي الشركة بعضهم البعض بأسمائهم الأولى دون تكليف (وشمل ذلك ويليام وديفيد نفسهما)، ومشاركة الموظفين حفلاتهم الخاصة، وغيرها من الأشياء البسيطة في المظهر ولكن الكبيرة في النفوس. وخلال خمسينات القرن العشرين قام كل من ويليام ودايفيد بخطوة غير معتادة بالمرة خلال تلك الفترة، وهي إعطاء منح مالية للموظفين لشراء أسهم بالشركة. وقامت الشركة في خلال تلك الحقبة بعمل أول الخطوات تجاه العولمة، وذلك قبل اختراع هذا المصلح بعقود كثيرة. فلقد قامت الشركة بتأسيس وحدات لها خاصة بالتصنيع والتسويق بالقارة الأوروبية. وكذلك خلال خمسينات القرن الماضي، قامت الشركة باختراع عداد لقراءة الترددات العالية  HP524A، والذي خفض الوقت اللازم لقياس الترددات العالية من حوالي 10 دقائق إلى ثانية أو ثانيتين على الأكثر. ونفس الوقت قامت الشركة بأول استحواذ في تاريخها، عندما قامت الشركة بالاستحواذ على شركة F.L. Moseley المتخصصة في مجال أجهزة الجرافيك العالية الجودة. وهذا ما سمح للشركة بالدخول إلى مجال أجهزة الرسم والتخطيط Plotters والذي مهد الطريق لدخول الشركة إلى مجال الطابعات والتي أصبحت أكبر منتج لها في العالم فيما بعد. ولاستمرار النمو دون فقدان القدرة على الحركة والمرونة، قامت الشركة بتأسيس وحدات متصلة ومترابطة لكل مجموعة من المنتجات الخاصة بالشركة. فلقد كانت الوحدة بمثابة شركة مستقلة، ولها صلاحية القرار فيما يخص نظم التطوير والتصنيع والتسويق الخاصة بمنتجاتها. وهذا ما سمح للشركة بالمرونة الكافية والقدرة العالية على التصدي للتغيرات التي تواجه الأسواق بطريقة بعيدة عن البيروقراطية.

القدرة على التغيير … الدخول إلى عصر الحوسبة الرقمية:

وفي ستينات القرن العشرين، استكملت الشركة رحلة النمو الثابت في مجال أجهزة القياس والاختبار، وكذلك في المجالات المرتبطة بهذا المجال، ومنها نظم الالكترونيات في المجالات الطبية، وكذلك الأجهزة التحليلية. وفي عام 1966 قامت الشركة بتطوير أول حاسب آلي في تاريخها، من طراز HP2116A . وفي نفس العام قدمت الشركة واحدة من أكثر الإبداعات والابتكارات التي غيرت وجه العالم وهي تكنولوجيا LED . وتنوعت استخدامات تكنولوجيا LED في الكثير والكثير من المجالات، ومنها شاشات الأجهزة الرقمية المحمولة، وشاشات الإعلانات، ومصابيح السيارات، وغيرها. كما قدمت الشركة للعالم أول آله حاسبة علمية مكتبية من طراز HP9100A. وكانت لهذه الآلة الحاسبة القدرة على البرمجة باستخدام الكروت الممغنطة، بما سمح للعلماء والباحثين باستخدام تلك الآلة الحاسبة، وإجراء العلميات الحاسبية المعقدة دون الحاجة إلى استخدام حاسبات آلية كبيرة ومعقدة، وبل في أغلب الأحوال غير متوفرة دائماً. وكانت الدعاية المصاحبة لهذه الآلة الحاسبة الجديدة هي أنها “حاسبك الآلي الشخصي”. وهذا كان من أوائل الاستخدامات لهذا اللفظ “الحاسب الآلي الشخصي”. وتوسعت الشركة في عملياتها خارج وداخل الولايات المتحدة. فلقد قامت الشركة بالدخول إلى السوق الأسيوي من خلال شراكة مع شركة Yokogawa اليابانية، كما قامت      ببناء أول مصنع لها خارج ولاية كاليفورنيا. وفي عام 1962 دخلت الشركة قائمة العظماء الخمسمائة، فلقد أصبح ترتيب الشركة رقم 460 ضمن أكبر 500 شركة طبقاً للتصنيف الخاص بفوربس. واستمرت الشركة في الصعود خلال العقود التالية، ففي سبعينات القرن العشرين استمرت الشركة في تطوير منتجاتها المخصصة للحوسبة الرقمية. وقامت الشركة بطرح حاسبها الآلي المتعدد الأغراض من طراز HP3000 ، كما طرحت الشركة واحد من أوائل الأجهزة الالكترونية الشخصية في العالم وهي الجهاز HP01، والذي كان عبارة عن ساعة معصم رقمية ومعها آلة حاسبة ونتيجة شخصية. وشهد هذا العقد وصول مبيعات الشركات إلى مليار دولار عام 1976، وتعدت المبيعات حاجز المليار دولار في خلال 3 سنوات، وذلك في عام 1979. وعلى صعيد الإدارة قامت الشركة بترسيخ مبدأ الساعات المرنة في العمل، وكانت الشركة أول شركة أمريكية تقوم بتطبيق هذا المبدأ. وفي نهاية هذا العقد قام كل من ويليام ودايفيد بتفويض “جون يانج” للقيام بأعمال الإدارة اليومية للشركة. وخلال الثمانينات من القرن العشرين، أصبحت الشركة لاعب رئيسي في مجال الحاسبات الآلية على اختلاف انواعها، سواء كانت حاسبات مكتبية أو محمولة وحتى الوصول إلى الميني كمبيوترز. وقامت الشركة بربط تكنولوجيا الحاسبات الآلية مع أجهزتها الخاصة بالقياس والاختبار والتحليل، وكذلك الأجهزة الطبية، بما جعلها أجهزة متميزة وفعالة وسريعة وخارج نطاق المنافسة بكثير. كما شهدت هذه الفترة الزمنية طرح الشركة لمنتجاتها من طابعات الليزر والطابعات النافثة للحبر (Ink Jet)، والتي يمكن توصيلها مباشرة على أجهزة الحاسب الآلي الشخصية. ولقد أطاحت الطابعات النافثة للحبر تكنولوجيا الطابعات النقطية (Dot Matrix) من الأسواق، ذلك لرخص سعرها وجودتها العالية. واحتلت الشركة الصدارة في هذا المضمار، وكانت دائماً خارج المنافسة. وأصبح الجراج التي نشأت فيه الشركة واحد من المعالم الأثرية في ولاية كاليفورنيا. واحتلفت الشركة بعيدها الخمسين وبها 95 ألف موظف، في حين بلغت مبيعاتها حوالي 12 مليار دولار.

الصعود إلى قمة النجاح:

في التسعينات أصبحت الشركة من الشركات القلائل في العالم التي زاوجت بين تقنيات الحاسبات الآلية والقياس والاتصالات. فلقد قامت الشركة بعمل العديد من التحسينات على نظم الحوسبة المحمولة واخترعت العديد من نظم وحلول الطباعة والتعامل مع الصور. وشهدت الشركة نسب نمو في حدود 20% سنوياً على مدار هذا العقد. وتخلى “جون يانج”  عن الإدارة إلى “ليو بلات”، والذي أصبحت الشركة تحت إدارته مثالاً رائعاً فيما يخص أعمالها وطرق التعامل مع منسوبيها، وكذلك مساهمتها في الأعمال الخاصة بتطوير المجتمع. وكما شهد هذا العقد فصل نشاط الشركة الخاص بأجهزة ومعدات القياس والاختبار إلى شركة جديدة وهي Aglient Technologies، وتحت قيادة جديدة، للدخول بقوة وبصورة مختلفة إلى الألفية الثالثة. وفي بداية الألفية الثالثة، ركزت الشركة على تبسيط استخدامات التكنولوجيا لتناسب جميع شرائح عملائها، سواء كانوا أفراد أو مؤسسات كبيرة. واصبحت الشركة من أكبر شركات تكنولوجيا المعلومات في العالم، فلقد بلغ حجم مبيعاتها في عام 2010 حوالي 126 مليار دولار، وعدد موظفيها حوالي 325 ألف موظف. واحتلت الشركة مكان الصدارة في عالم الحاسبات الآلية والطابعات، وخاصة عندما استحوذت على شركة كومباك في 2002. وامتد نشاط الشركة إلى مجال الخدمات والاستشارات، عندما استحوذت الشركة على شركة EDS العملاقة في هذا المجال، في صفقة تقارب 14 مليار دولار. واعتبرت هذا الخطوة توجه استراتيجي للشركة للدخول إلى عالم الخدمات والاستشارات، وذلك لمواجهة المنافس الأبرز لها في هذا المجال (أي بي أم).

ومازالت الرحلة مستمرة، فرحلة الابداع والابتكار ليس لها نهاية، وإن كانت البداية لابد أن تكون على أيدي عظماء مثل ويليام هوليت ودايفيد باكرد.

الأسطورة هنري فورد – العزيمة والإيمان في النجاح

كان من الضروري التعرف على هنري فورد، هذه الشخصية الأسطورية التي حققت النجاح المبهر خلال مشوار حياته. فلقد ولد هنري فورد في 30 يوليو 1863، وكان أكبر أخواته الستة وقد نشأ في مزرعة العائلة في ولاية ميشيغان بالولايات المتحدة، كأي طفل في بيئة ريفية خلال القرن التاسع عشر في الولايات المتحدة. فكان يذهب إلى مدرسة متواضعة بها فصل واحد ،ويقوم بأعمال الزراعة والفلاحة. ولكن، ومنذ نعومة أظافره، كان يهتم بالأعمال الميكانيكية. وعندما بلغ السادسة عشر من عمره في عام 1879 ذهب إلى مدينة قريبة من ديترويت للتدريب على أعمال الميكانيكا، ولكن من حين إلى آخر، كان يعود إلى المزرعة ليساعد أسرته في أعمال الزراعة. وظل يتدرب على أعمال الميكانيكا لمدة 3 سنوات وبعدها عاد إلى مزرعة العائلة. وخلال الأعوام التالية كان يقسم وقته بين أعمال تشغيل وصيانة الماكينات البخارية، والقيام بأعمال موسمية في مصنع في ديترويت، بالإضافة إلى قيامه بإصلاح المعدات في مزرعة والده. ولكنه كان دائماً يقدم يد ويؤخر يد عندما تكون المهمة تتعلق بأعمال المزرعة الأخرى!

تزوج هنري عام 1888 وقام بإعالة نفسه وزوجته من خلال إدارة ورشة صغيرة. وفي عام 1891 أصبح هنري مهندساً وعمل في مؤسسة اديسون للإضاءة في ديترويت، وكان هذا من أهم الأحداث في حياته حيث قرر وهب حياته لتطوير الصناعة. وخلال عامين فقط أصبح كبير مهندسي الشركة، مما أعطاه فرصة من الوقت وبعض المال للتركيز علي تجاربه الشخصية فيما يخص “آلة الاحتراق الداخلي”.

في عام 1896 توجت مجهوداته باكتمال سيارته ذاتية الدفع رباعية الدورات. وكانت النسخة الأولى من السيارة بها أربع عجلات تشبه لحد كبير عجلات الدراجة، ولكنها كبيرة وضخمة، وكانت السيارة لها “مقود” أقرب ما يكون لدفة المركب. وكذلك كانت السيارة بها سرعتان فقط ولا يوجد بها إمكانية الرجوع إلى الوراء!

وعلى الرغم أن هنري فورد لم يكن الأول في بناء سيارة ذاتية الدفع رباعية الدورات وتعمل بمحرك الغازولين، ولكن وبلا شك، هو واحد من أعظم الرجال الذين جعلوا الولايات المتحدة من أكبر مصنعي السيارات في العالم، وإن لم تكن أكبرها خلال عقود كبيرة.

وبما أن النجاح يبدأ من الفشل، فبعد محاولتين فاشلتين لتأسيس شركته الخاصة لتصنيع السيارات، نجح فورد أخيراً في إنشاء الشركة في بدايات القرن العشرين، وذلك في عام 1903. أصبح فورد هو نائب الرئيس وكبير المهندسين وكانت الشركة الوليدة تنتج عدد قليل من السيارات في اليوم الواحد في مصنعه الواقع من شارع مارك في مدينة ديترويت، وكان لديه مجموعتين أو ثلاثة من الرجال يقوموا بالعمل على كل سيارة، وتجميع مكوناتها الآتية من شركات أخرى.

وبعد 5 أعوام، وفي عام 1908، حقق هنري فورد حلم حياته، بإنتاج سيارة ذات سعر معقول وفعالة ومتينة،وهي السيارة الأشهر في تاريخ الشركة “T-Model”، وإن لم تكن الشركة الأشهر في تاريخ صناعة السيارات في العالم. هذه السيارة التي غيرت التاريخ ودشنت عهد جديد للنقل الشخصي. وكانت سهولة تشغيلها وصيانتها والتعامل معها وخاصة على الطرق الغير ممهدة، وراء النجاح الأسطوري لهذه السيارة والشركة ككل، وبل لهنري فورد شخصياً. وكدليل حي لهذا النجاح، فأن نصف السيارات التي كانت تمشي في شوارع الولايات المتحدة في هذه الحقبة من الزمن، كانت من طراز “T”. ولتلبية الطلب المتزايد على السيارة، قامت الشركة بافتتاح مصنع كبير في هاي لاند بارك في ميتشغان في عام 1910.

وهناك أصبح هنري فورد قادراً على الجمع بين القيام بالتصنيع بدقة عالية، والحصول في نفس الوقت على سيارات بمواصفات قياسية. وكان فورد يقوم بنقل المكونات المختلفة للسيارة إلى العمال، وهم واقفون في أماكنهم، من خلال سيور متحركة، ليقوموا بدورهم بتركيبها. وكانت هذه العملية منتظمة كالساعة، وفي منتهى الدقة والسلاسة. وهذا كله أدى إلى خفض الوقت اللازم لتصنيع السيارات والتكلفة المصاحبة لها. وباختصار فقد قدم هنري فورد للعالم فكرة “خط الإنتاج”. هذه الفكرة التي أحدث ثورة كبرى في عالم الصناعة ككل، وليس في عالم صناعة السيارات فقط. وأصبح هنري فورد ، من خلال سيارته من طراز “T”، أكبر مصنع للسيارات في العالم.

وفي أواخر العقد الأول من القرن العشرين وأوائل العقد الثاني، أنشاْ فورد أكبر مجمع صناعي في الولايات المتحدة على ضفاف روج ريد، في مسقط رأسه، ديترويت. وكان هذا المجمع الصناعي به كل العناصر اللازمة لصناعة السيارات. فقد كان به مصنع للصلب، ومصنع زجاج، وخطوط إنتاج السيارات. وكان يأتي كل من خام الحديد والفحم للمصنع بواسطة سفن بخارية عن طريق البحيرات العظمى، وكذلك بواسطة السكك الحديدية، وذلك لإنتاج الحديد والصلب. ومن ثم كانت مصانع الدرفلة والمطارق وورش التجميع تقوم بتحويل الصلب إلى شاشيهات وزنبركات، وهياكل للسيارات. ومن جهة أخرى، تقوم المسابك بتحويل الحديد إلى بلوكات وسلندرات، ومن ثم يتم تجميع الموتور. وبحلول عام 1927، أصبحت جميع خطوات التصنيع، من أول تنقية المادة الخام إلى التجميع النهائي للسيارة، تتم في هذا المجمع الصناعي العملاق، محققاً نظرية هنري فورد الخاص بـ “التصنيع الغزير الإنتاج” “Mass Production” “الفورديزم”!

وهكذا تمكن هنري فورد من إنتاج كميات كبيرة من السيارات اقتصادية التكلفة، حيث أنه كان ينتج سيارة كل 98 دقيقة. وفي نفس الوقت كان يحقق دخل كبير للعاملين في مصنعه، عندما أطلق برنامجه “5 دولار للعامل في اليوم” في عام 1914. وهذا كله ساعد على الحفاظ على العمالة وتقليل معدلات دورانها، حيث كانت العديد من الإدارات بالمصنع تعين 300 عامل كل عام لشغل 100 وظيفة. ونجح فورد في الوصول إلى الكفاءة المطلوبة وتعيين العمال الأكفاء فقط والاحتفاظ بهم، حيث أنه نجح في تخفيض ساعات العمل من 9 إلى 8 ساعات يومياً لمدة 5 أيام في الأسبوع فقط، ورفع أجر العامل اليومي من 2.34 دولار إلى 5 دولارات للعامل الماهر.

والطريف أن هنري فورد لم يكن يؤمن بالمحاسبين، فهذه الشركة العملاقة يتم تدقيق حساباتها إلا في عهد خليفته – هنري فورد “الثاني”. وكان التزام هنري فورد الشديد بتقليل التكلفة ورفع كفاءة الإنتاج في نفس الوقت السبب الرئيسي للكثير من الابتكارات والإبداعات على مستوى الأعمال والتكنولوجيا. وخير مثال على ذلك قيام هنري فورد بعمل نظام “الفرانشيز” حيث أنه قام بتعيين وكلاء له في كل مدنية في أمريكا الشمالية، وكذلك في المدن الرئيسية حول العالم في قاراته الخمسة.

والجدير بالذكر أن هنري فورد قد ترك أغلب ثروته الطائلة إلى مؤسسة فورد الخيرية، ولكن في نفس الوقت وضع نظاماً يضمن لعائلته السيطرة على الشركة بشكل مستمر.

هنري فورد أعطى للعالم كله خير مثال للنجاح الباهر من العدم تقريباً . هنري فورد قدم الكثير من البراهين على كيفية جعل الحلم حقيقة. ولقد كان له مقولة شهيرة “لا يوجد شئ مستحيل أو صعب، فما عليك إلا أن تقوم بتقسيم الأعمال الكبيرة والصعبة إلى مهام صغيرة وبسيطة، ومن ثم تحقيق النجاح المبهر”.

لقد أعطى هنري فورد للعالم أشياء عظيمة السيارة و خطوط الإنتاج. الشيئان الذان غيروا وجه العالم كله، وفي نفس الوقت حققا لهنري فورد النجاح والثروة.

انه الإبداع والابتكار، فلقد تمكن هنري فورد، من خلال العمل الدؤوب، والصبر، والرؤية الثابتة، والعزيمة، إلى تحويل ابتكاراته لشئ نافع للبشرية. فخط الإنتاج الذي ابتكره جمع بين فكرتين. الفكرة الأولى هو تصنيع أجزاء بمواصفات قياسية وموحدة، هذه الفكرة التي وضعها إيلي ويتني قبله بقرن من الزمان. أما الفكرة الثانية فهي إحضار تلك الأجزاء إلى العمال بدلاً من ذهاب العمال اليها. هذا الأسلوب قد حقق لهنري فورد ولبلاده الثروة والمجد.

وأخيراً كغيره من المبدعين والمبتكرين، فلقد كان هنري فورد لديه الرؤية الواضحة، والمقترنة بالعزم والإدارة والإصرار على النجاح، بل والإيمان به، وكذلك المهارة الفنية والإدارية.

لقد نجح هنري فورد في حل اللغز، محققاً بذلك واحدة من أكبر قصص النجاح في القرن العشرين.

شستر كارلسن – مؤسس زيروكس … 21 عاماً من الإصرار لتحقيق الهدف

صورةلقد ولدت تكنولوجيا “Xerography” “الزيوجرافي”، والتي أحدث ثورة نسخ الملفات المكتبية، غير مكترث بها في 22 أكتوبر 1938. لقد كانت هذه التكنولوجيا ناتجة عن الهام شخص واحد، يعمل في أوقات فراغه، ولكن شخص فريد من نوعه. إنه “شستر كارلسن Chester Carlson” مؤسس شركة زيروكس العملاقة.

فلقد كان هذا الابتكار المتفرد ، ولسنوات عديدة، يبدو لكثير من الناس شئ لا يريده أحد. وعندا توفي كارسن في عام 1968 عن عمر يناهز 62 عاماً، كانت مبيعات شركة “زيروكس” تقارب المليار دولار، وكان العالم بأسره ينسخ أوراقه بضغطة زر واحد من ماكينته العجيبة.

ودعنا نلق النظر على رحلة حياة هذا المخترع العظيم، لتضع لنا علامات مضيئة لكيفية أن الإصرار والعزيمة يؤديا إلى نجاح غير مسبوق. فلقد ولد كارلسن في فبراير عام 1906، وكان هو الأبن الوحيد لأب يعمل في مجال الحلاقة. وعند وصول كارلسن لسن 14 عام، كان يعمل بعد ساعات المدرسة وخلال عطلات نهاية الأسبوع، ليساعد أسرته المتواضعة. وعلى الرغم من حداثة سنه، فلقد كان شديد الفضول ودائم السؤال عن الأشياء التي يراها أمامه، وكيف ولماذا تحدث، وكان أيضاً شديد الولوع بالجرافيك وعلوم الكيمياء. هذان العلمان اللذان ساعدا كارلسن علي الوصول إلى اختراعه المبهر. وفي مراحل عمره الأولى، كان كارلسن يعمل في مطبعة قريبة من مسكنه. ثم تخرج كارلسن من المدرسة الثانوية متخصصاً في علم الكيمياء، ومن ثم حصل على درجة علمية في الفيزياء من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا.

وانتقل هذا الشاب إلى نيويورك ليعمل كمهندس للأبحاث في معامل شركة “بل” العملاقة، بأجر لا يتعدى 35 دولار في الأسبوع. ولكن سرعان ما تغيرت الأحوال، وتم الاستغناء عنه نتيجة الركود الاقتصادية العظيم، الذي واجه الولايات المتحدة في عشرينات القرن الماضي. وحينئذ التحق كارلسن بمكتب للمحاماة متخصص في مجال حماية حقوق الملكية الفكرية. ولأنه لديه الولع الشديد بالعلم والمعرفة، التحق كارلسن بكلية الحقوق في نيويورك، في فترة الدراسة المسائية، ليحصل بعدها على شهادة في الحقوق، ومن ثم تم ترقيته إلى مدير بمكتب المحاماة ذاته. لقد أصبح كارلسن محامياً بخلفيه كيميائيه وفيزيائية!

وبدأت الفكرة تلمع في رأسه. فلقد لاحظ كارلسن أنه لا يوجد صورة مكربنة كافية من الأوراق الخاصة ببراءات الاختراع، وكذلك لا يوجد وسيلة سهلة أو عملية لعمل صور إضافية. لقد كانت الاختيارات محدودة في هذا الوقت . فلقد كان الحصول على نسخ اضافية تتم بأحد طريقتين، هما: إما إرسال الأوراق إلى التصوير، وكان هذا باهظ التكلفة، أو أعادة كتابة تلك الأوراق، ومن ثم إعادة مراجعتها، للتأكد من خلوها من الأخطاء المطبعية.

ثم بدأ كارلسن في تطوير فكرته، وقام بعمل بعض التجارب الأولية في “مطبخه”! نعم المطبخ أول معمل لإجراء التجارب. وتوالى العمل الدؤوب لسنوات لحين توصله إلى تكنولوجيا التصوير الكهربائي ، والذي تحول بعد ذلك إلى ” الزيوجرافي”.

قام كارلسن بتسجيل براءة الاختراع في أكتوبر 1938. ولقد أدرك كارلسن أن هذه هي البداية فقط، وليس آخر المشوار. وأدرك أن الطريق مازال طويلاً أمامه ليصبح الحلم حقيقة ولتكون هذه التكنولوجيا مستخدمة بالفعل.

وكان توقعه سليماً، لقد واجه كارلسن، العديد من المصاعب والتحديات، فلقد رأي الكثير من الناس أن اختراعه شئ جديد ولكنه ليس ضروري وهام. وكان مرور الوقت دون نتيجة يضاعف من آلام كارلسن النفسية، بالإضافة إلى آلامه العضوية، حيث أنه كان يعاني من التهاب المفاصل.

واستجمع كارلسن قواه مرة أخرى وعاود أبحاثه. وقام بإنشاء معمل صغير قرب ضاحية “استروريا” بمدينة نيويورك. وقام بتعيين “لاجئ” الماني يدعى “اتو كوريني” متخصص في مجال الفيزياء ليساعده في أبحاثه، وذلك خلال الأعوام 1939 – 1944. وخلال هذه الفترة، رفض الاختراع أكثر من 20 شركة، وحتى المجلس القومي الأمريكي للمخترعين، لم يقبل هذا الاختراع. وفكر كارلسن ترك الموضوع برمته وبدء اليأس يتسلل إليه، ولكن في كل مرة يقول لنفسه “أنا متأكد أن هذا الاختراع واعداً جداً ومن المجحف أن يترك ليموت”.

وأخيراً، وفي عام 1944، وافق معهد باتايلي التذكاري Battelle Memorial Institution، وهي مؤسسة غير هادفة للربح، على توقيع اتفاقية مع كارلسن للمشاركة في العوائد، ولاستكمال مشروعه. كان هذا مغامرة، بل مقامرة من المعهد، مع هذا الشاب الطموح. وفي عام 1947 قام المعهد بالدخول في اتفاقية مع شركة صغير تعمل في مجال الأوراق، وتسمى هالويد “Haloid” والتي أصبحت فيما بعد شركة “زيروكس”، لتطوير ماكينة تصوير قائمة على تكنولوجيا الزيوجرافي التي طورها كارلسن.

وأخيراً، وبعد 21 عاماً، أصبح الحلم حقيقة. لقد أصبح لدى كارلسن ماكينة تصوير مكتبية تستخدم التكنولوجيا التي ابتكرها. فلقد أصبح لدى شركة زيروكس ماكينة التصوير من طراز 914، والتي يمكنها أن تقوم بتصوير أعداد كبيرة من المستندات بسرعة، وبمجرد ضغطة على زر، وعلى ورق عادي أيضاً من مقاس 9 بوصة في 14 بوصة. ومن هنا جاءت تسمية الطراز 914.

لقد حققت هذه الماكينة نجاح غير معقول ، فعند طرح ماكينة التصوير 914 في مارس 1960، كانت كل التوقعات أن يتم شحن حوالي 5000 وحدة للأسواق خلال 3 سنوات. ولكن ما حدث بالفعل أنه تم انتاج 10000 وحدة بنهاية عام 1962، بل هناك طلبات أكبر بكثير من طاقة إنتاج الشركة. السوق  وحده هو الحكم عندنا يتعلق الأمر بالتكنولوجيا، فلا يمكن لأي أحد، حتى الخبراء، أن يتوقعوا هذا النجاح الباهر والغير مسبوق.

الآن أصبحت تكنولوجيا الزيوجرافي هي حجر الزاوية لصناعة النسخ، التي تنتج مليارات من الصور الضوئية كل عام، وتدر مليارات الدولارات أيضاً!

وأخيراً فأن النجاح يحتاج إلى البصيرة والإيمان به، ويحتاج أيضاً للعزيمة والإصرار، والقدرات الفنية العالية، بالإضافة إلى الإقدام والمغامرة أحياناً، والتوفيق أولاً وأخيراً. 

تالين .. المدينة الساحرة .. مدينة العصور الوسطى .. الرقمية

صورة

على هامش مشاركتي بالمنتدى الدولي الرابع لريادة الأعمال والإبداع التكنولوجي بالعاصمة الفنلندية – هلسنكي، في أواخر مايو 2011، والذي نظمه البنك الدولي بالتعاون مع الحكومة الفنلندية، قمت بزيارة العاصمة الاستونية “تالين”، وهذ للوقوف على التجربة الاستونية الرقمية، والذي أشاد بها العالم كله.

وقبل سردي لرحلتي إلى تالين، أود أن أعلم القارئ بمجموعة من الحقائق عن هذه الدولة الفريدة وعاصمتها الخلابة. فقد استعادت استونيا استقلالها من الاتحاد السوفيتي في عام 1991، وانضمت بعدها إلى الاتحاد الأوروبي، وحلف الناتو، واتفاقية الشنجن، وكذلك منظمة التعاون و التنمية. ويبلغ تعداد استونيا ما يقارب 1.3 مليون نسمة، يقطن منهم حوالي 400 ألف نسمة في العاصمة تالين. ويوجد باستونيا 10 جامعات، وأكثر من 24 معهد عالي للتكنولوجيا. وأكثر من 75% من سكان استونيا من مستخدمي الانترنت، وكما يستخدم أكثر من 88% من السكان خدمات الانترنت البنكي، في حين تبلغ نسبة استخدام التليفون المحمول أكثر من 122%. ويوجد بالدولة أكثر من 1000 نقطة استخدام للانترنت (مجاناً)، نعم مجاناً، لا داعي للاستغراب، فالحكومة هناك تعمل علي جعل الانترنت مثل الماء والكهرباء للمواطن الاستوني، وبل تعتبر أن ذلك حق دستوري للمواطن هناك. ويستخدم كذلك أكثر من 80% من الاستونين خدمات التوقيع الالكتروني. وتعتبر استونيا أكبر دولة في أوروبا في استخدامات “بطاقة المواطن الذكية”، والذي بدأ العمل بها منذ عام 1997.

وبدأت الرحلة وانطلقنا مع مجموعة من الزملاء في تمام الساعة السابعة صباحاً من هلسنكي، التي تبعد حوالي 80 كيلومتر عن تالين، بواسطة عبارة كبيرة تحمل أكثر من 600 شخص، أغلبهم من الفنلنديين الذين يتسوقوا في تالين، لرخص أسعارها النسبية عن هلسنكي.

كل شئ بديع وشديد التنظيم في الدخول للعبارة والجلوس في المكان المخصص لك. قررت أن اطلع إلى سطح العبارة لرؤية منظر البحر البديع. ولعمل ذلك اضطررت إلى ارتداء البالطو، وكذلك كوفيه، وكذلك غطاء للرأس. فالجو كان بارداً جداً! وحين دخلت إلى سطح المركب راعني المنظر الخلاب للبحر والجزر الصغيرة به. وطرأ في بالي فكرة هي أنه من الواضح أن البحر هنا في الشتاء سيكون ناصع البياض، لأنه سيكون متجمداً، وذلك لسبب بسيط وهو أن درجة الحرارة تكون تحت الصفر بكثير في هذا البلاد الشمالية. ولكنني قلت لنفسي طبعاً لديهم تقنيات وأساليب لحل هذه المعضلة، وخاصة أن البحر هو وسيلة السفر الرئيسية بين تلك البلدان. وقبل أن أتعمق في التفكير رأيت سفن بيضاء عملاقة مصمتة تماماً. المنظر غريب! ماذا تفعل هذه السفن؟ وعلى الفور قمت بسؤال أحد رباني العبارة، الذي قال لي: هذه السفن كاسحة للجليد وتعمل طوال الشتاء على فتح ممرات للسفن في هذا البحر المتجمد شتاءً. وحينئذً زالت حيرتي. يبدو أني مازلت قروي ساذج!

وعند رسونا على الشاطئ، وجدنا الحافلات الخاصة بنا في الانتظار. كل شئ مرتب وجميل! وأثناء سيرنا في شوارع مدينة تالين للوصول إلى أول محطة من محطات الزيارة، رأيت مناظر طبيعية بديعة، وكذلك مباني أكثر إبداعا، أغلبها من طراز العصور الوسطى. شئ لا يمكن أن يوصف! ومن ثم وصلنا إلى أول محطة في الزيارة، وكانت مركز الحاضنات التكنولوجية، وهناك تعرفنا على العديد من الشركات الصغيرة التي يتم احتضانها لتطوير تقنيات عالية ومفيدة للمجتمع في نفس الوقت. فرأينا الشركات التي تعمل في التقنيات الخاصة بمعالجة الأمراض المستعصية مثل السرطان، والشركات العاملة في تقنيات حماية ومراقبة الحدود ضد المتسللين وتهريب الأسلحة والمخدرات، والشركات العاملة في مجال تطوير الخدمات العامة مثل التصويت الالكتروني والبوليس الالكتروني وغيرها، والشركات العاملة في تطوير نظم الاتصالات البحرية باستخدام تقنيات الانترنت. حقيقي كانوا شباب يفرح القلب الحزين، وكم أتمنى أن تكون شركات بلدي بهذا التفتح والإبداع والقدرة على البحث عما هو حديث وجديد ونافع أيضاً!

ومن زيارة إلى زيارة حتى وصلنا إلى مبنى البلدية الأثري في وسط العاصمة والمشيد علي الطراز القوطي. وعلي بوابة المبنى الجميل  كان يقف على بابه في شرف استقبالنا حارساً بزيه التقليدي المزركش، وكان نائبه العمدة على رأس المستقبلين داخل القاعة التاريخية الرئيسية والتي قامت باستعراض الخطوات التي قامت بها بلدها “استونيا” لتكون من مصاف الدول المتقدمة تكنولوجياً واقتصادياً بعد أن كانت واحدة من أفقر دول الاتحاد السوفيتي السابق. فالتصنيف الائتماني لاستونيا يتراوح بين “A” و “A1”. وتم استهراض كيف كانت استونيا نقطة من نقاط التجارة الهامة بين شمال وشرق أوروبا على مدار ثمانين قرون من الزمان، وكذلك بين شرق وغرب أوروبا. وتوجد بالدولة خمس مواني عالمية كبرى وثلاثة مناطق حرة، وأن تصنيف استونيا أصبح الثالث عالمياً من حيث سهولة التجارة عبر الحدود. وبلغ حجم الاستثمار الأجنبي المباشر قمته عام 2005، حيث بلغ حوالي 2.5 مليار يورو. وتبلغ الضرائب على أرباح الشركات “صفر” بالمائة، نعم صفر بالمائة في حالة إعادة استثمارها بالشركات.

وتعتبر استونيا أول دولة في العالم تقدم خدمات التصويت للمواطنين في الانتخابات البلدية والعامة وانتخابات البرلمان الأوروبي من خلال الانترنت منذ عام 2005. ولكن كانت لدى ملاحظة في هذا الشأن، فنسبة الناخبين علي الانترنت في استونيا لا تتعدى 25% فقط، على الرغم من الانتشار الواسع لخدمات الحكومة والخدمات البنكية الالكترونية في البلاد. ولكن الاجابة على هذا السؤال بسيطة جداً، فيوم الانتخابات هو يوم “عيد” للأسر في استونيا، حيث تقوم العائلة بكل أفرادها بارتداء أجمل وازهي ملابسها والذهاب للصناديق للإدلاء بالأصوات، في احتفالية جميلة جداً. يبدو أن كل شئ هناك جميل بالفطرة. وانتشار الخدمات الالكترونية العامة ترجع إلي عام 2000 في شكل مشروع الحكومة الالكترونية، الذي تلاه مشروع الضرائب الالكتروني في ربيع عام 2001، وقبله كان مشروع التوقيع الالكتروني في آواخر 2000، وكذلك مشروع الفواتير الالكترونية في  يوليو 2000. والجدير بالذكر أن نسبة التعاملات الالكترونية تبلغ 98% من المعاملات، ونسبة التعاملات البنكية الالكترونية وصلت إلى 109% . والأكثر من ذلك أن رسوم انتظار السيارات تدفع من خلال الهاتف المحمول … يا سلام يا ولداه … وفي عام 2007 قامت الدولة بتفعيل مشروع البطاقة الموبايل M-ID ونظام البوليس الالكتروني . وفي عام 2008 تم طرح خدمات الصحة الالكترونية، وخلال عامين بعد ذلك قاموا بتدشين نظام الروشتة الطبية الالكترونية. ولكنهم لن يتوقفوا عند هذا الحد، ففي خلال الأعوام القليلة التالية سوف يطرحوا للمواطن عدد كبير من المشروعات الالكترونية، ومنها الإيصال الرقمي، وخدمات العبور بين الحدود رقمياً، واستخدام بطاقة الرقم القومي كبطاقة للسحب من حسابات البنوك وكبطاقة تجميع مزايا الاستخدام. والأكثر من ذلك أنهم يعملوا بكد ليصلوا بسرعة الانترنت إلى 100 ميجابايت لكل منزل! أظن أن اجمد بيت في مصر عنده 8 ميجا بايت (مش كدة !!) والأكثر طرافة أن عنوان المراسلات الرسمي للمواطن سيكون عنوان البريد الالكتروني الخاص به، وعنها سيقوم محضر المحكمة الاستوني بإرسال إعلام القضية إلى السيد جونز على العنوان التالي: Johns@estonia.ee مش 56 شارع روسيا … كلام جميل ماقدرش أقول حاجه عنه!

وبعد انتهاء الاستقبال الرسمي قامت نائبة عمدة العاصمة بعمل عزومة لنا على العشاء في القاعة الأثرية التي لا تفتح إلى ملوك ورؤساء الدول، ونحن كمان! فلقد فتحت هذه القاعة من قبل لصاحبة الجلالة ملكة بريطانيا العظمي والإمبراطور الياباني. والله الواحد كان سعيداً جداً بهذا الشرف.

وانتهت الزيارات الرسمية، وكان لدينا ساعتين من التجوال الحر، فقمنا بالتجول في أنحاء وسط العاصمة “تالين” وكانت صدمتي الكبرى فهذا الجزء من المدينة كالحلم! المباني جميلة الطراز وقديمه ويرجع أغلبها إلى القرن الثالث عشر. والغريب ان الناس هناك مازالوا يستعملوا تلك المباني حتى الآن. وهذا ما جعل هذه المدينة على قائمة المدن الأثرية لمنظمة اليونسكو، وفي نفس الوقت هي مدينة من أكبر المدن رقمنة في العالم. مزيج فريد من نوعه! وأثناء تجوالي بوسط العاصمة، تالين، تخيلت أنني أحلم، أو أنني اتجول داخل يونيفرسال ستوديوز في بالولايات المتحدة، أو مدينة دينزني للألعاب. ما أبدع وأنظف (وأكرر أنظف) المباني والطرقات الحجرية، وما أجمل الزهور التي على جوانب الطريق أو في شرفات البيوت أو على المقاهي والمطاعم. كل شئ جميل وبديع! لقد كررت هذا الجملة كثيراً خلال الساعات القليلة التي قضيتها بهذه المدينة الساحرة “مدينة العصور الوسطى الرقمية”.

وفي نهاية الرحلة تحرك العبارة مرة أخرى عائدة بنا إلى هلسنكي العاصمة الفنلدية وحاملة معها ذكريات لن تنسى عن هذه التحفة الفنية والرقمية التي أسمها “تالين”!

وطرأ في خاطري أنه حقاً كبر وصغر البلدان لا يتحدد بكثرة أو قلة سكانها، أو كبر وصغر مساحاتها، بل على أساس جودة “العقول” الموجودة بها، وعلى الرؤية الواضحة لدي متخذي القرار بها، وإيضاً علي عملهم الدؤوب لرفع مستوى معيشة شعوبهم وتقدمهم والوصول بهم إلى النجاح والرقي.

هل الديمقراطية هي الحل؟

في متابعة للأحداث التي مرت بها البلاد منذ ثورة 25 يناير 2011 وحتي اليوم، أمعنت في معني الديمقراطية، فالديمقراطية  تعني في الأصل حكم الشعب لنفسه. وعلي هذا الأساس، وجدت مجموعة من الشواهد تؤكد أن الديمقراطية هي الحل ولكن بشروط محددة، قد تستغرق عشر سنوات علي الأقل لتحقيقها. أول هذه الشروط وجود مجموعة من أصحاب الرؤية (وليس فرد في شكل رئيس ملهم) تجتمع علي تطوير مشروع قومي حقيقي وليس وهمي، مثل المشروع المقدم من بعض الأخوة، لأنه ببساطة يبدو لي كمن يقود باص كبير به الكثير من البشر، وهو مركز علي مراية السيارة بكل حواسه ولا ينظر إلي الأمام، وبالتالي سيقود السيارة إلي أقرب ترعة أو مصرف، وحينئذ سندعو له وللشعب أيضاً بالرحمة والجنه إن شاء الله!

ونعود مرة أخري لتلك المجموعة القائدة، فأنا أري أنه من اللازم أن تكون لدي تلك المجموعة رؤية واضحة تتلخص في الوصول إلي شئ صعب الوصول إليه بالمستوي الذي نحن فيه حالياً، سواء اجتماعياً أو ثقافياً أو تعليمياً أو أخلاقياً، والأخير هو الأهم! وتكون لهذه المجموعة القدرة علي القيادة والتواصل مع البسطاء لشرح تلك الرؤية وتنفيذها في شكل برامج متسلسلة وقريبة المدي. لأن هذا سيساعد علي التفاف الناس حول هذا الهدف والتوحد في اتجاه مستقبل أفضل لمصر وشعبها، الذي يمثل الشباب فيه أكثر من نصف تعداده. إنه شئ رائع وجميل … شعب عفي وفتي ولكن الأمراض الجسدية والنفسية قد نالت منه الكثير للأسف، فمرة ينخدع بتيار سياسي متأسلم أجوف يردد الشعارات الكبيرة ويحذر معارضيه من هول عذاب الله (عز وجل) لهم، ومرة ينهار تحت وطأة الحاجة ورغيف العيش واختفاء السولار والبوتجاز. شعب مسكين دائماً موضوع بين المطرقة والسندان! ولكنه ذكي بالفطرة ولكنه فاقد لقيادة حقيقية تحب مصلحة هذا البلد العظيم.

والسؤال الذي يطرح نفسه، هل من الممكن الوصول إلي شئ لا يمكن الوصول إليه بالامكانيات الحالية؟ نعم ممكن بكل بساطة. فعندما قال كيندي أنه يجب وضع إنسان علي القمر خلال عقد من الزمان، كانت تلك الرؤية التي توحد حولها كافة طوائف الشعب الامريكي. فعندما قال كيندي ذلك، كان علي الأمة الامريكية أن تقوم بتوصيل هذا الإنسان بصاروخ لم يخترع بعد، ومزود بوقود لم يخترع بعد، ويتم التحكم به بحاسب آلي لم يخترع بعد، ويتم الاتصال بهذا الشخص المسكين بنظام اتصالات لم يخترع بعد، والأظرف من ذلك علي هذا الإنسان أن يلبس بدلة فضاء مصنوعة من مواد لم تخترع بعد!!! أمريكا ليست المثال الوحيد في هذا المضمون. أنظروا ماذا فعلت الصين لتكون “مصنع” العالم وتكون الاقتصاد رقم 2 في العالم بعد الولايات المتحدة، واليابان وكوريا من قبلها، والبرازيل (الاقتصاد رقم 7 في العالم وبناتج قومي 2000 مليار دولار في 2010) والارجتين وشيلي وغيرها وغيرها. ولماذا نذهب بعيد، أنظروا إلي التجربة التركية عندما كان عليها الوصول إلي مستوي اقتصادي واجتماعي معين يؤهلها إلي الدخول في الاتحاد الأوروبي، فكانت في الحضيض ثم وصلت للاقتصاد رقم 17 في العالم في عام 2010 وناتج قومي حوالي 734 مليار دولار (أي حوالي ضعف الناتج القومي السعودي، أكبر اقتصاد في منطقتنا).

أنها الرؤية والالتفاف حولها وليس عليها، وحينئذ ستتطور منظومة التعليم تلقائياً وكذلك منظومة البحث العلمي، والتصنيع وغيرها، وبالتالي ستتطور باقي مفردات المنظومة، وأهمها الالتزام والأخلاق، لأن الهدف أصبح واضحاً، وبالتالي لا يمكن لأحد أن يغرد بعيداً عن السرب، وإلا خرج من الصورة، كما غني (حليم) بكلمات (جاهين) المبدع!

وحينذاك تكون الديمقراطية هي الحل. وللوصول إلي ذلك، وبمفهوم براجماتي بحت قد لا ينم عن قناعة داخلية بالضرورة، علينا التعايش مع حكم العسكر، ولكن في منظومة تمارس الديمقراطية (حتي ولو علي استحياء ولكن في تدرج يفرضه الواقع والخبرات المكتسبة) وهدفها رفعة وتقدم البلد، والتحرك للأمام تجاه تحقيق الهدف، ودون النظر إلي الوراء طوال الوقت، وعدم التفكير كثيراً في غزوة الصناديق والحازمون ومن هو الحل وبرامج التوك شو.

أنظروا إلي التجارب التي ذكرتها سلفاً لتفهموا ماذا اقصد!!!

ولله الأمر من قبل ومن بعد!

منظومة القيم في بلاد الكفار … والفرق بين عبد الرحمن وكارينا!

صورةشاءت الأقدار أن أسافر إلي بلدان من بلاد الكفار وهما هونج كونج والصين في ابريل 2012. وهذه أول مرة أسافر فيها للشرق الأقصي، لأن أغلب سفرياتي كانت للغرب (أمريكا وأوروبا). وكنت أسمع كثيراً عن ثفاقة شعوب الشرق البعيد ولكنني لم يسعدني الحظ للوقوف علي ثقافة هذا الجزء من العالم عن قرب. ولكن شاء الله أن أقوم بزيارة تلك البلدان لأري نموذجاً فردياً من التطور والتقدم.

فلقد وقعت هونج كونج تحت الاستعمار البريطاني بعد حرب الأفيون الأولي (1839-1842) وحتي استعادة الصين لها عام 1997، لتصبح منطقة ذات طابع خاص Special Agreement Region. وهونج كونج بلد فريد، فهي مجموعة من الجزر الجبلية، محدودة أو عديمة الموارد في الحقيقة، ولكن الشعب هناك كان له رأي أخر. فعلي الرغم من الطبيعة القاسية، قامت تلك الدولة المتناهية الصغر بشق الجبال ورصف الطرق السريعة وعمل الأنفاق والكباري المعلقة وإنشاء شبكة مواصلات عامة تشمل علي أكثر من 10 خطوط مترو أنفاق (تعمل بالكهرباء وبدون سائق) والباصات المكيفة وقطار سريع للمطار وقطار سريع للربط مع الوطن الأم (الصين). وكل شئ يعمل بالثانية والدقيقة. شئ بديع حقيقي. فهذه الشبكة لا تقل عن أي شبكة مواصلات في أكبر العواصم العالمية من حيث الجودة والتنظيم.

وكون إدارة البشر تصنع المستحيل، ففي هذه الجزيرة الصغيرة أكثر من 6500 ناطحة سحاب لاستيعاب أكثر من 6.5 مليون نسمة. ومن الممكن أن تتخيلوا أن الزحام هناك غير مطاق، ولكن هذا ليس حقيقة، فالمرور شديد الانسابية. تدرون لماذا لأنهم متلزمون وجادون ومحترمون، علي عكس شعوب كثيرة، أولهم شعوب منطقتنا الرائعة! وهناك لا أحد فوق النظام، الباص الخاص بالفندق كان يتحرك الساعة 8.28 وليس الساعة 8.27 ولا الساعة 8.29. والله هذا حقيقي، وحتي لو كان هناك راكب واحد. منتهي الانضباط والجدية وبالتالي منتهي التقدم والرفاهية. عمل وعمل وعمل وجدية وجدية وجدية واخلاق واخلاق واخلاق!

وهونج كونج بها أكثر من 4 جوامع رئيسية لإقامة شعائر المسلمين (حوالي 50 ألف مسلم) بالإضافة إلي الكنائس المسيحية (لخدمة حوالي 500 ألف مسيحي) والمعابد اليهودية وبالطبع المعابد البوذية. وفي المعرض التكنولوجي الذي زرته كان هناك مسجداً للصلاة إيضاٌ! يا تري في بلادنا الجميلة نطبق هذا ونقبل الأخر، كما أمرنا الله عز وجل في كتابة العزيز (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ). بالطبع لا!

والآن أقول لكم من هو عبد الرحمن ومن هي كارينا. عبد الرحمن شاب مصري متزوج من صينية ليحصل علي إقامة هناك، وعنده مطعم يقدم فيه الأكل الحلال. المطعم في بناية رثة أسفلها محل للتدليك (مشبوه) وبجانبه فندق (آسف شقة) مشبوهه جداً. الحقيقي أن عبد الرحمن ليس لديه مطعم ولكن شقة في هذه البناية عاملها مطعم. المطعم رث وطاولته رثة ورائحة المكان غير لطيفة علي الإطلاق! المهم عبد الرحمن ليس لديه ترخيص مطعم ولا يدفع ضرائب ولا أي شئ. الجميل أن عبد الرحمن قام بإنزال العديد من الأكلات (مشويات وبطاطس محمرة ومسقعة وسلاطات وعيش وخلافه). الأكل كثير وفوق طاقتنا وفاض منه الكثير والكثير. المهم دفعنا 280 دولار هونج كونج لكل فرد (حوالي 280 جنيه مصري). وذهبنا من هناك والمعدة تمام والجيب خالي.

وفي اليوم التالي، أشار علينا أحد الأصدقاء أن نذهب للغذاء في مطعم عائم شهير هناك أسمه Jumbo Kingdom، تم تصوير أهم الأفلام العالمية فيه مثل أفلام جميس بوند. ويقع المطعم في منطقة ابردين السياحية والفخمة، حيث يسكن أغني الناس هناك. المطعم رائع الشكل وفخم الديكورات والسياح بالمئات! وكانت في استقبالنا فتاة صينية رقيقة لا يتعدي عمرها 20 عاماً بالملابس الصينية التقليدية وعلي وجهها ابتسامة، وقادتنا للجلوس علي طاولة نري منها الميناء. المنظر رائع وبديع. علي مرمي البصر ناطحات السحاب والمراكب الصينية التقليدية. وناولتنا كارينا قائمة الطعام، وكانت المفاجاة الكبري. فالقائمة بدون أسعار!!! هذا معناه أن الواحد سيدفع دم قلبه في وجبة الغذاء. يال الهول! وبدأنا نسألها عن كل بند والسعر الخاص بها، وهي ترد بمنتهي الأدب والسماحة. وأخيراً وجدنا ضالتنا … طبق جمبري بسعر 480 دولار هونج كونج وطبق أرز بسعر 120 دولار هونج كونج. ومن ثم طلبنا كل واحد طبق جمبري وطبق أرز. وكلنا ثلاثة. وهنا تغيرت ملامحها وقالت هل أنتم متأكدون؟ … قلنا نعم ما المانع! هل هناك مشكلة؟ قالت نعم. فأنتم الثلاثة يكفيكم طبق (واحد) جمبري وطبق (واحد) أرز وليس ثلاثة! وإن كنتم ترغبون فمن الممكن إضافة طبق (واحد) من السبيط المقلي. وهذا يكفي جداً. ساد الوجوم وجوهنا. وتسألنا بينا اليس من مصلحتها ومصحلة المطعم زيادة الفاتورة؟ بالطبع نعم ولكن الأهم أن تحافظ علي مصداقيتها ومصداقية المكان. وتم الانصياع لنصحية (كارينا) وجاء الشيف بالقفاز الأبيض لعمل الأكل الفاخر والشهئ أمامنا وجاءت هي بالفوط الساخنة والبادرة لمسح أيدنيا وأوجههنا، وبعد ذلك جاءت المقبلات الصينية الشهية والشاي الأخصر وشاي الياسمين. كل شئ رائع مرة أخري. وأخيراً دفعنا كل واحد 200 دولار هونج كونج أي حوالي ثلثان ما دفعناه عند (عبد الرحمن) في الشقة … آسف المطعم.

هم يطبقون منظومة القيم في كل شئ في حياتهم وبالتالي يحصدون تقدم ورفاهية … ونحن نتحدث فقط عن منظومة القيم ولا نطبقها وبالتالي نحصد تخلف وفقر وغزوة الصناديق ونعم للاستقرار.

لله الأمر من قبل ومن بعد!