جنوب إفريقيا ومحطة مصر

East London SA

يبدو من الوهلة الأولي أن العنوان غربياً، وأنه لا يوجد أي علاقة من قريب أو بعيد بين دولة جنوب إفريقيا … الكائنة في أقصي القارة … ومحطة مصر الكائنة في وسط مدنية القاهرة عاصمة المحروسة (دائماً) مصر.
لنعرف ما هي تلك العلاقة، دعنا نتعرف أولاً علي دولة جنوب إفريقيا، والتي سعدت بزيارتها في أواخر شهر مايو 2013، لحضور المنتدي الدولي الخامس للإبداع التكنولوجي وريادة الأعمال، والذي إقيم هناك برعاية البنك الدولي ووزارة العلوم والتكنولوجيا الجنوب إفريقية في مدنية إيست لندن، تلك المدنية الواقعة علي المحيط الهندي في أقصي الجنوب الشرقي من القارة السمراء الجميلة، وعلي بعد خطوات من المدخل الشرقي لرأس الرجاء الصالح، للعبور إلي المحيط الأطلسي. وقد تأملت هذا الأسم كثيراً، فهو (الرجاء) و(الصالح) إيضاً، تسمية بديعة من دون شك.
وتبلغ مساحة جنوب إفريقيا أكثر من 1.2 مليون كيلومتر مربع، وسواحلها تمتد لأكثر من 2700 كيلومتر، في حين يبلغ تعداد سكانها أكثر من 51 مليون نسمة، طبقاً لأخر تعداد في عام 2011. وعدد اللغات الرسمية في الدستور يبلغ 11 لغة، نعم 11 لغة رسمية في هذه الدولة الجميلة والمتقدمة. ومن تلك اللغات لغتان من أصول أوربية وهي الانجليزية والافركان (المشتقة من الهولندية). وعلي الرغم من أن اللغة الانجليزية هي لغة الأعمال والأكثر شيوعاً في هذا المضمار، إلا أنها تقع في المرتبة الخامسة من حيث عدد المتحدثين بها.
وتاريخ جنوب إفريقيا يعتبر تاريخاً غنياً وفريداً من بدء الخليقة علي الأرض، فلقد تم اكتشاف حفريات الأنسان الأول علي أرضها في عام 1924 في منطقة توانج. وقد قام المكتشف البرتغالي بارتولوميو دياس بالنزول علي أقصي الجانب الغربي من القارة (نامبيا حالياً) في عام 1487، في محاولة منه لاكتشاف ممر تجاري إلي الهند، وفي بدايات عام 1488، أكمل المكتشف دياس رحلته شرقاَ، ولكن في ظل عواصف هائلة، مما جعله يبحر بعيداً عن الساحل، ليصل إلي الساحل الشرقي من القارة. وفي أثناء عودته غرباً، في مايو من نفس العام، رأي المكتشف العظيم رأس القارة لأول مرة، وقد أطلق الملك البرتغالي (جون الثاني) حينئذ اسم الرجاء الصالح عليه، ليصبح منذ ذلك التاريخ رأس الرجاء الصالح. ويتوالي الزمن علي جنوب إفريقيا مروراً بالاستعمار الأوروبي ثم البريطاني ثم الاستقلال عن بريطانيا العظمي وبدء مرحلة الفصل العنصري البغيض، ثم خروج (الزعيم) مانديلا من السجن وانتهاء سياسة الفضل العنصري إلي الأبد، وتطبيق سياسة التصالح الوطني الحقيقي وليس المفتعل، لتصبح جنوب إفريقيا دولة من أهم الدول الناشئة اقتصادياً في العالم وبناتج قومي حوالي 408 مليار دولار، أي حوالي ضعف الناتج القومي المصري، مما جعل جنوب إفريقيا مؤهلة للأنضمام إلي نادي الدول الواعدة BRICS وهي البرازيل (2.45 تريليون دولار) وروسيا (1.86 تريليون دولار) والهند (1.87 تريليون دولار) والصين (7.32 تريليون دولار). كما أن سياسة جنوب إفريقيا التكنولوجية الجديدة تسعي إلي التميز في 3 محاور وهي: تكنولوجيا الفضاء وتكنولوجيا الطاقة والتكنولوجيا الحيوية، لذا لديهم وزارة للعلوم مقرونة بالتكنولوجيا. وتلك المحاور هي الطريق الوحيد في قرننا الواحد والعشرين للتميز والإنطلاق إلي (النهضة) الحقيقية وليست النهضة التي نعاني منها مؤخراً هنا في المحروسة.
وبنظرة علي التركيبة السكانية والديموجرافية في جنوب أفريقيا نري أن نسبة السكان السود في جنوب إفريقيا حوالي 80% من تعداد السكان، والملونيين حوالي 9%، والبيض حوالي 9%، وأصحاب الأصول الهندية والأسيوية حوالي 2%. وهناك تري الميكروجيب والحجاب وبل النقاب إيضاً، وتري البنطلون الجنيز والشورت والجلابية البيضاء في آن واحد، كلاً في تناغم وتعايش فريد وجميل، وهذا كله بفضل عظمة (القائد) مانديلا، الذي طبق عند وصوله للحكم (بعلم أو بغير علم) مقولة النبي الكريم محمد (صلي الله عليه وسلم) عند دخوله مكه حين قال “أذهبوا فأنتم الطلقاء”. أنها صفات القيادة والزعامة الحق في كل زمان ومكان.
الاختلاف والتلاحم والتوحد حول هدف، ليس موجوداً في جنوب إفريقيا فقط، ولكن موجود إيضاً في محطة مصر. عندما تتأمل الناس في محطة مصر، تري كل الوجوه من جميع الأطياف، منهم صاحب اللحية الكثيفة والجلباب القصير مع صاحب البدلة الشديدة الأناقة، ومنهم صاحبة البنطلون الجنيز الضيق وبجانبها مرتدية الخمار، كلهم في سعادة، وكلهم متعايش مع الأخر، وكلهم متعاون، وكلهم يسعوا إلي هدفهم الواحد البسيط، وهو ركوب القطار.
هذا الاختلاف والتلاحم والتوحد هو سر عظمة أي مجتمع وأي دولة وتفوقها، كما كان الحال في مصر، قبل دخولنا عصر الظلام الأول في 1952 وعصر الظلام الأكبر بعد ستين سنة، حيث أنه عصر يسعي إلي ظلام العقول وبل القلوب إيضاً، تحت مسميات غربية أقرب إلي عصور ما قبل التاريخ والحياة، أدت إلي التفرق والتشرذم والتناقض.
نحن نحتاج إلي قيادة تنقل مجتمع (محطة مصر) إلي مصر كلها، وهذا هو السبيل الأوحد.