وطني حبيبي .. وطني الأكبر

عنوان المقال هو مطلع الأوبريت الرائع لموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب في ستينات القرن العشرين، وهذا طبعاً غير الشيخ محمد بن عبد الوهاب مؤسس المذهب الوهابي أبان الدولة السعودية الأولي في القرن التاسع عشر .. وكان هذا الأوبريت مشارك به كوكبة من كبار فناني وفنانات العرب أمثال عبد الحليم حافظ وصباح وشادية وغيرهم. كان الغرض من هذا الأوبريت إذكاء روح العروبة والقومية العربية داخل نفوس مواطني الوطن العربي أيام الرئيس جمال عبد الناصر ومبلوراً لرؤيته الشخصية في توحد حقيقي للدول العربية في وطن واحد كبير متواصل. وطن واحد لشعوب تتكلم نفس اللغة ولديها نفس الثقافة والتراث الحضاري. نوع من الأمل سرعان ما تبدد وتحول لسراب لعدم توحد الرؤي وسذاجة الآليات.

وهنا نتسأل من صاحب فكرة توحد العرب في الأصل؟ صاحب الفكرة هي بريطانيا العظمي .. نعم بريطانيا العظمي قائدة العالم حتي الحرب العالمية الثانية والتي سلمت لواء قيادة العالم لامتدادها الطبيعي الأكبر والأكثر تمدداً وحداثة (الولايات المتحدة الأمريكية) بعد انتصار الحلفاء بقيادة أمريكا علي هتلر وأعوانه في عام 1945. ففي مايو 1941 قام إيدن وزير الخارجية البريطاني حينذاك ورئيس وزارئها بعد ذلك بإلقاء خطاب قال فيه “إن العالم العربي قد خطا خطوات عظيمة منذ التسوية التي تمت عقب الحرب العالمية الماضية، ويرجو كثير من مفكري العرب للشعوب العربية درجة من درجات الوحدة أكبر مما تتمتع به الآن. وإن العرب يتطلعون لنيل تأييدنا في مساعيهم نحو هذا الهدف ولا ينبغي أن نغفل الرد على هذا الطلب من جانب أصدقائنا ويبدو أنه من الطبيعي ومن الحق وجود تقوية الروابط الثقافية والاقتصادية بين البلاد العربية وكذلك الروابط السياسية أيضاً… وحكومة جلالة ملك بريطانيا سوف تبذل تأييدها التام لأيّ خطة تلقى موافقة عامة”. وبعدها بحوالي عامين وفي فبراير 1943 صرح إيدن في مجلس العموم البريطاني بأن حكومته تنظر بعين “العطف” إلى كل حركة بين العرب ترمي إلى تحقيق وحدتهم الاقتصادية والثقافية والسياسية. وبهذا أعطي قائد العالم الأذن والضوء الأخضر للبلدان العربية وبعين “العطف” في تكوين كيان يضمهم، وفي أغلب الظن ككيان بديل للخلافة العثمانية التي انهارات بعد الحرب العالمية الأولي.

إذاً وطني حبيبي وطني الأكبر هي فكرة صاحب المقام الرفيع القابع في داونج ستريت وليس نتيجة لرؤية قادة المنطقة المظفرين. أصحاب المقام الرفيع في داونج ستريت ومن بعدهم في المكتب البيضاوي أصحاب قلوب رقيقة دائماً.

وفي عام 1942 قام مصطفي باشا النحاس رئيس وزارء مصر بدعوة رئيس الوزراء السوري جميل مردم ورئيس الكتلة الوطنية اللبنانية بشارة الخوري لمناقشة فكرة “إقامة جامعة عربية لتوثيق التعاون بين البلدان العربية المنضمة لها”. أي بعد عام من خطاب إيدن. وفي عام 1943 أكد النحاس باشا (بعد تصريح إيدن في مجلس العموم البريطاني) علي استعداد حكومة جلالة الملك فاروق استطلاع آراء الحكومات في المنطقة العربية في موضوع الوحدة وعقد مؤتمر لمناقشته. وأسفرت المباحثات بين مصر وكل من سوريا ولبنان والسعودية والأردن واليمن والعراق إلي وجود اتجاهين؛ الأول منها يميل لإنشاء وحدة إقيليمة فرعية، مثل سوريا الكبري في ذلك الوقت (الهلال الخصيب) وإن هذا تحقق بالفعل لاحقاً في شكل مجلس التعاون الخليجي الأكثر نجاحاً لتقارب المستويات الاقتصادية والثقافية بين دوله، والثاني كان يفضل صورة أعم للوحدة أما في شكل فيدرالية أو كونفدرالية بشكل ما أو في تطبيق حل وسط يحقق التعاون ويحافظ في ذات الوقت علي استقلالية الدول المشاركة.

وتغلب الرأي الداعي للاستقلالية والتعاون، وتم إنشاء جامعة الدول العربية في 22 مارس 1945 أي قبل الأمم المتحدة التي تم إنشائها في 24 أكتوبر 1945. وجاء ميثاق الجامعة العربية مؤكداً علي مجموعة من البنود الرئيسية الهامة:

• قيام جامعة الدول العربية من الدول العربية المستقلة التي تقبل الانضمام إليها ويكون لها مجلس تمثل فيه الدول المشتركة في الجامعة على قدم المساواة.

• مهمة مجلس الجامعة هي: مراعاة تنفيذ ما تبرمه الدول الأعضاء فيما بينها من اتفاقيات وعقد اجتماعات دورية لتوثيق الصلات بينها والتنسيق بين خططها السياسية لتحقيق للتعاون فيما بينها وصيانة استقلالها وسيادتها من كل اعتداء بالوسائل السياسية الممكنة، والنظر بصفة عامة في شؤون البلاد العربية.

• قرارات المجلس ملزمة لمن يقبلها فيما عدا الأحوال التي يقع فيها خلاف بين دولتين من أعضاء الجامعة ويلجأ الطرفان إلى المجلس لفض النزاع بينهما. ففي هذه الأحوال تكون قرارات المجلس ملزمة ونافذة.

• لا يجوز الالتجاء إلى القوة لفض المنازعات بين دولتين من دول الجامعة كما لا يجوز اتباع سياسة خارجية تضر بسياسة جامعة الدول العربية أو أية دولة من دولها.

• يجوز لكل دولة من الدول الأعضاء ما اشتمل البروتوكول على قرار خاص بضرورة احترام استقلال لبنان وسيادته، وعلى قرار آخر باعتبار فلسطين ركنّا هامًا من أركان البلاد العربية وحقوق العرب فيها لا يمكن المساس بها من غير إضرار بالسلم والاستقلال في العالم العربي، ويجب على الدول العربية تأييد قضية عرب فلسطين بالعمل على تحقيق أمانيهم المشروعة وصون حقوقهم العادلة.

وبمراجعة أهم بنود الميثاق نري فشلاً ذريعاً في تطبيق أي بند من بنوده علي مدار 70 عاماً، فلم يتم توثيق الصلات بين الدول ولا التنسيق بين خططها السياسية ولا التعاون فيما بينها ولاصيانة استقلالها وسيادتها من كل اعتداء بالوسائل السياسية الممكنة، ولا في حالة وجود خلاف بين الدول من أعضاء الجامعة لم تلجأ الأطراف المتصارعة أو حتي المتخاصمة إلى الجامعة لفض النزاع بينهم، بل علي العكس يتم حل الخلاف بنظرية (قعدة العرب) إن حل. كما تم الالتجاء إلى القوة لفض المنازعات بين دول الجامعة واتباع سياسة خارجية تضر بسياسة جامعة الدول العربية وكل دولها بلا استثناء، والعراق وسوريا ومصر وليبيا وأخيراً اليمن خير شاهد. وكذا ضاعت قضية فلسطين للأبد بيد الجامعة ويد أصحابها أيضاً قبل أي أحد.

كما يجدر الذكر أن أول اجتماع علي مستوي القمة كان في عام 1946 ثم في عام 1956 (أي بعد 10 سنوات) ثم 1964 (أي بعد 8 سنوات) ويعد الأخير هو بمثابة الاجتماع الأول علي مستوي القمة بصورة حقيقية .. عقدين من الزمان تقريباً بهما 3 اجتماعات. مما يوضح الأهمية للقصوي للجامعة في أذهان أصحاب الجامعة في تلك الفترة وما تلاها من فترات. وتوالت الاجتماعات بصورة غير منتظمة في الفترة ما بين 1964 و1996، فمرة يتم الاجتماع مرتين في العام ومرة كل عامين، كما شهدت الفترة 1991-1996 اجتماعين فقط، ومنذ العام 2000 وحتي الآن يوجد انتظام لانعقاد القمة مرة سنوية، وكأنه اراد العرب أن يدخلوا الألفية الثالثة أكثر انتظاماً مما قبل.

فالعرب تجمعهم الأزمات الطارئة وليس الاستراتيجية الطويلة الأمد المبنية علي الرؤية الواضحة، لذا فشل الملف الاقتصادي العربي فشلاً في رأيي أكبر بكثير من الفشل السياسي. فالدول العربية بها حوالي 350 مليون مواطن والناتج القومي للدول العربية مجتمعة 1.495 تريليون دولار في 2013، طبقاً لقواعد بيانات البنك الدولي في ديسمبر 2014، في حين دولة مثل استراليا ناتجها القومي 1.56 تريليون دولار بعدد سكان حوالي 23 مليون نسمة، أي أكثر من ناتج دول لغة الضاد جمعاء وبعدد يساوي 6% من تعداد العرب، ونفس الحال للناتج القومي لدول جنوب الصحراء الافريقية البالغ 1.62 تريليون دولار. إذاً نحن نعيش الوهم الأكبر اقتصادياً قبل سياسياً.

وعلي طريق الحلم الذي أصبح وهم بمرور الأيام تم تأسيس مجلس الوحدة الاقتصادية العربية في يونيو 1957 بمشاركة 10 دول هي مصر والأردن والسودان وفلسطين وسوريا والصومال والعراق واليمن وليبيا وموريتانيا. وفي الطريق انسحبت ليبيا وتلاشت الصومال. وكان الغرض من مجلس الوحدة هو حرية انتقال الأشخاص ورؤوس الأموال وحرية تبادل البضائع والمنتجات الوطنية والأجنبية وحرية الإقامة والعمل والاستخدام وممارسة النشاط الاقتصادي وحرية النقل والترانزيت واستعمال النقل والموانئ والمطارات المدنية وحقوق التملك والايصاء والإرث. وهذا كله كان وما لا يزال حبر علي ورق إلا من رحم ربي. واستكمالاً للطريق تم إنشاء منطقة التجارة العربية الحرة الكبرى باسم “جافتا”، بعد توقيع إتفاقية في هذا الشأن في قمة عمان 1997، وشارك فيها 18 دولة (الدول الأحياء في ذلك الوقت) وهم العراق وسوريا ولبنان والأردن والسعودية والبحرين وقطر والإمارات وعمان واليمن والكويت ومصر وليبيا وفلسطين وتونس والجزائر والمغرب والسودان لتكوين حلف اقتصادي بين الدول العربية للتكامل الاقتصادي والتبادل التجاري منخفض الرسوم الجمركية، بحيث تدخل حيز التطبيق في أوائل 2005، وهذا لمواجهه التكتلات الاقتصادية الدولية.

وهنا دعنا نقارن الحال مع السوق الأوروبية المشتركة التي تأسست في مارس 1957 (نفس عام تأسيس مجلس الوحدة الاقتصادية) ونتيجة لنضج الشعوب والأنظمة بلغ الناتج القومي لمنطقة اليورو في 2013 ما يقارب 13.15 تريليون دولار أي عشر أضعاف وطنا الحبيب الكبير تقريباً. وهذا لأن السياسة تخدم الاقتصاد … الاقتصاد القائم علي القيمة المضافة والعلم وليس تصدير الخام وخرافة الماضي، وكذا الاقتصاد يخدم السياسة الواعية الخادمة لمصالح الأوطان ومصالح الشعوب، بشرط وجود الإرادة والإدارة الحقيقية.

لذا استكمالاً للخطي .. مرحي بالجيش العربي المشترك ومرحي بأنشودة وطني حبيبي وطني الأكبر لتكون مارشاً لدخول قادة الأمة العربية عند دخولهم قاعة قمتهم .. مرحي مرحي.